في مثل هذا الشهر من عام 2017، كان الباكستاني كيشور كمار بصدد حزم حقائبه لمغادرة بلده، للمرة الأولى في حياته، نحو مدينة الدوحة، بعدما قادته موهبته للمشاركة في معرض كتارا الدولي للصيد والصقور كصانع للبراقع الجلدية.
منذ ذلك الحين، أصبح يشكل هذا المعرض بالنسبة إليه موعدا سنويا، يعرض ويبيع فيه براقعه الجلدية المزخرفة، قبل أن يعود مجددا إلى غوتكي، مدينته في باكستان، الموجودة بإقليم السند، ليواصل بدأب صنع مجموعة أخرى.
ظل كيشور على هذا النحو حتى حلول سنة 2021، حيث قرر الاستقرار في قطر بصفة نهائية، بعدما وظّفه مدربُ صقورٍ قطريّ في محله. هذا ما رواه لي الرجل الثلاثينيُ خلال لقائنا الأول بمعرض كتارا الدولي للصيد والصقور. غير أن فضولي الصحفيَّ جعلني أغوص أكثر في عمق تجربته، فطلبت منه أن أزوره مرة أخرى في المحل الذي يشتغل فيه.
قصدت الثلاثاء الماضي سوق واقف حسب الاتفاق الذي تم بيننا، باحثةً عن محل اكسسوارات الصقور. ظللت أمشي تائهة إلى أن وقعت عيني على بوابة زجاجية، ظهرت لي من خلفها بعض أدوات الخياطة والأقمشة الجلدية.
اقتربت من بوابة المحل مستطلعة، وما أن وطأت قدماي عتبته حتى غمرت أنفي رائحةُ الجلد الطبيعي ممزوجةً برائحة الخشب. رأيتُ كمار، جالسا على الأرض، حافيَ القدمين، منهمكا في صناعة براقعه على طاولة أرضية اتخذت شكل جذع شجرة.

الباكستاني كامار يصنع براقع الصقور بإحدى محلات سوق واقف بالدوحة (الصورة: أحلام غجو)
استقبلني عبد العزيز محمود، صاحب المحل بابتسامة خجولة، قبل أن يعود للصالون الموجود بالجانب الأيسر للمحل، حيث كان يتابع نشرة الأخبار. أما كامار، فظل مرتديا سماعات الأذن. فهو من جهة، لا يجيد اللغة العربية، ومن جهة أخرى، كان كل تركيزه منصبّا على البراقع التي كانت تحيطها أناملُه بعناية خاصة.

الحرفي كامار يضيف لمساته الخاصة على برقع (الصورة: أحلام غجو)
ما أن جلستُ قربه، حتى بدأ يحدثني عن أهمية البراقع لكونها تحجب أعين الصقور عن ضوضاء العالم الخارجي: "الصقور حيوانات صحراوية غير معتادة على الإنسان، وعليه فقد وجب تغطية عيونها بهذه القطعة الجلدية حتى تظل هادئة"، قال ذلك مشيرا بيده إلى البرقع الذي انتهى بالكاد من صنعه.
وقبل أن يشرع في الاشتغال على القطعة الجلدية الموالية، راح يصف كل المراحل التي يقوم بها للحصول على المنتوج النهائي: «أرسم في البداية هذا الشكل (يريني الشكل) على قطعة الجلد، ثم أقطعه، وأقوم بتصويبه حسب مجسم وجه الصقر، بطريقة تسمح له بالأكل والشرب. أستغرق في كل برقع حوالي ثلاث ساعات".
على جانبه الأيمن، اصطفت عشرات البراقع على صندوق خشبي مفتوح، يجمع بين مختلف الألوان وأنواع الجلود، بعضها مستورد من باكستان، والبعض الآخر من اسبانيا، حسب قوله.

براقع الصقور المصنوعة من الجلد الباكستاني (الصورة: أحلام غجو)
"كنت أقضي أكثر من ست عشرة ساعة في اليوم وأنا جالس القرفصاء":
يقول كامار والابتسامة تعلو محياه وكأنه يحن إلى ماضٍ بعيد: "أمتهن هذه الحرفة منذ أكثر من ثمان سنوات، تعلمت صناعة البراقع على يد صديق محترف في باكستان لمدة شهرين. كنتُ أتوق دوما للقائه لأتعلم منه الحرفة. بعد ذلك عكفت على صناعة البراقع داخل غرفتي محاولا البحث عن لمستي الخاصة. في البداية، كنت أقضي أكثر من ست عشرة ساعة في اليوم وأنا جالس القرفصاء، منغمس في عملي، حتى اختلط عليَّ وقت غروب الشمس وشروقها".
وجوابا عن سؤالي حول سر إصراره وحرصه على إتقان هذه الحرفة اليدوية، قال: «تعلمي لهذه الحرفة أتى في السياق الطبيعي للأشياء. بعض أقاربي وأصدقائي امتهنوها قبلي وسبقوني إلى قطر، وعندما كنت أتواصل معهم، كانوا يشجعونني على الالتحاق بهم في الدوحة، فقررت أن أحذو حذوهم وأطور بدوري جودة منتوجاتي".
براقع الصقور.. الصناعة ذات اللمسات الباكستانية:
هل تختلف طريقة صناعتك للبراقع في قطر عن طريقة صناعتك لها في باكستان؟
"عندما كنت في باكستان، كانت صناعتي للبراقع تعتمد على الخبرة النظرية فقط. فالصقور نادرة في مدينتي، ولم أكن أحظى بفرصة تقييس براقعي عليها". يتوقف كامار لفترة قصيرة، يمسك مطرقته، ثم يستأنف حديثه مجددا بعدما آنس مني رغبة في الاستماع للمزيد من أحاديثه: "هنا في قطر، استطعت تطوير مهاراتي بشكل أكبر، فالزبائن في العادة يجلبون معهم صقورهم إلى المحل، وأقيس البراقع عليها لأكتشف نقاط قوة وضعف منتوجاتي، وأعمل على تطويرها وتحسين جودتها حتى تكون الصقور ـ وهي ترتديها ـ في وضعية مريحة".

الثلاثيني كامار بصدد صناعة البرقع (الصورة: أحلام غجو)
ذكرتَ قبل قليل أن أقرباءك وأصدقاءك يمتهنون نفس الحرفة، هل هي مهنة شائعة في باكستان يتم توارثها أبا عن جد؟
"عليك أن تعلمي، أنه في أغلبية دول الخليج، لا تكاد تخلو محلات بيع البراقع من أحد الباكستانيين! الباكستانيون هم أكثر الناس تعاطيا لهذه الحرفة، وخاصة سكان مدينة غوتكي، التي أنحدر منها".
وبماذا تفسر هذا؟
"أفسر هذا بقصة قديمة معروفة في مدينة غوتكي. ذات يوم، احتاجَ رجل في باكستان برقعا لصقره، فذهب عند حرفي ليطلب منه إعداده، ووصف له نوعية المنتوج وشكله، فحاول الحرفي ابتكار تصميم مناسب لما طلبه الرجل، ثم حدث ما لم يكن في الحسبان.. نال البرقع إعجاب الزبون، ونمت مداخيل مُصممه بشكل ملموس بعد أن طلب منه إنتاج كميات أكبر، ووظف الحرفي أشخاصا آخرين في مشروعه الكبير. من هنا كانت انطلاقة هذه الحرفة بباكستان، وأصبحت من الدول المعروفة بصناعة براقع الصقور، وذاع صيتها في دول الخليج".
حسب كامار، فهو دائما ما يحرص على أن يخلق لنفسه تحديات جديدة ليصقل موهبته ويتمكن من تقديم تصاميم مبدعة يضفي عليها لمسته الخاصة، لكن مشواره لم يكن دائما مفروشا بالورود: "لا أخفي عليك أنني واجهت بعض الصعوبات في البداية قبل أن أتأقلم مع بيئتي الجديدة، لأن كل شيء هنا مختلف وجديد بالنسبة لي، لكنني أحس بأنني محظوظ للغاية لأنني أشتغل في مكان يُقدَّر فيه عملي، والآن أطمح للمشاركة في فعاليات عالمية أعرض فيها منتوجاتي وأقدمها كإضافة جديدة ومتميزة في عالم الصقارة".
Comentários